عبر الهاتف، "أغرتني" زميلتي منال حين قدّمت لي بطاقة لحضور حفل لمغنية أجهلها تماماً. وعادةً، ما تقلقني البطاقات المجانية، لكني اكتشفت أن منال دفعت ثمن البطاقات لتساعد طلاب جامعة بيت لحم في فلسطين... فالحفل منظّم لهذا الهدف. وهنا، أعدت النظر والتفكير بأن أذهب إلى المسرح القابع في (مول الإمارات) في دبي الذي دخلته مرة للتعرّف على صوت المغنية الجزائرية سعاد ماسي، وها أنا اليوم أعود من جديد دون أدنى فكرة عمّا ينتظرني في هذا المسرح المنمّق كمدينة دبي.
كانت الوجوه الحاضرة مبتسمة، ودودة، ومسرعة في تفقّد بعضها قبل الدخول إلى القاعة... صوت المذيعة باللغة الإنكليزية يدعو الحضور للدخول بسرعة... ففي الثامنة والنصف سترفع الستارة ويبدأ الحفل... هدأ الجمع وأقفلت الهواتف وانطفأ الضوء لتفتح الستارة على أوركسترا وبيانو جاثم في الركن. وما هي إلا هنيهة، حتى أطلّت شابة تملك كل مواصفات الصبية العصرية، مرتدية فستاناً كمغنيات الأوبرا في القرن التاسع عشر، لكنه بدا حديثاً ويليق بما جاءت لأجله.
بعد تبادل التحيات بين الفنانة والجمهور، انطلقت نغمات بيانو مشيرة إلى لحن أوبرالي تسلّل إلى كل الحاضرين منبّهاً إلى ما هو قادم، لينطلق صوت زينة متجولاً بين النوتات الموسيقية، مشكّلاً حالة لا تسمح بالهروب أو البقاء خارج هذا المكان... ارتفعت النوتة وخرجت من حنجرة زينة كل تفاصيل الموهبة الفذّة، وتابعت حتى وصلت إلى نقطة اللاعودة ليخرج المسرح من صمته ويدوّي مصفّقاً لهذه الشابة الفلسطينية المكتفية بتقدير الذواقة، وبدعمها المؤسسات التربوية في بلدها الأم فلسطين.
.. بلغتها الإنكليزية الصافية، أطلقت زينة تحية لبلدها وقدمت له رائعة فيروز والرحابنة (زهرة المدائن... يا قدس)... تصرّفت بهذا اللحن المحكم لتضيف علومها إلى عالم سعيد عقل كاتب الكلمات التي لم يأتِ بمثلها شاعر حتى اليوم، ولم يجد غيره وصف تلك اللحظة التاريخية لسقوط مدينة السلام.
انضباط الأوركسترا وتلازم زينة بدورها دفعا الجمهور إلى التمعّن والدخول في عالم هذه الغنائية الرائعة، والإطمئنان إلى أن الأجيال القادمة لن تترك الجيد من أشعارنا وموسيقانا ولا تاريخنا.
عودة للأوبرا مرة أخرى، وإلى نص تملأه النكهة الإسبانية، ويعتمد على حسّ الفكاهة عند المغنية التي استطاعت أن تنقلنا إلى عصور لم يتسنَ لنا أن نعيشها حتى من خلال كتابات المؤرخين.
ونحن في خضمّ العصور الرومنطيقية لا بدّ من حضور الأغنية الشرقية... ومن غيره عبد الوهاب يستطيع أن يقف في صف هؤلاء العباقرة صنّاع الذوق العالمي.
وهنا، أتت موسيقى "انت عمري" فرصة لتفحصها كموسيقى صافية بعيداً عن التدخلات العصرية التي فرضها علينا زمان الإلكترون الشقي و"شعوذات" الـ DJ.
عادت زينة من استراحتها القليلة في ثوب يشبه زمانها ومكانها متنقلة بين ألحان العالم لتصل إلى رائعة المغنية اديث بياف la vie en rose باللغة الفرنسية، ما وفّر علينا الذهاب إلى باريس والجلوس عند نهر السين نراقب المراكب المليئة بالحالمين العابرين إلى زمان الورود والحياة.
وما أضافته زينة برهوم في هذه الأمسية هو التنبيه إلى قدرة الملحن محمد القصبجي على عبور أزمان الآخرين، خصوصاً في لحنه الفذّ "أنا قلبي دليلي"، ليزيد من بريق مطربة الأمسية في العام 2012... فلهذا اللحن الفضل في اكتشاف مواهب عديدة ونجوم تربّعوا على عرش الأغنية الكلاسيكية كالمطربة ماجدة الرومي، التي أطلّت من خلال هذه الأغنية إلى عالم الفن.
ولا تمرّ أمسية موسيقية ذات طابع شرقي دون المرور في حديقة أسمهان وهي أحد رموز الفن الأوبرالي العربي، ولصوتها رنين الذهب في صناديق أميرات الحكايا القديمة.
زينة برهوم اسم يسير الهوينة بين حقول الألغام العشوائية المنتشرة في آذاننا ونحن نقفز كالأرانب بين مطرب وآخر وبين كليب وأغنية "سنغل" وبين نجم يعلو وآخر يهبط. بإمكانكم البحث عن صوتها في الروابط المتاحة في حال لم تصادفكم منال لتدعوكم لحضور حفلة شبه مجانية لزينة برهوم.