علماء النفس يسمونه الإحباط. لكن الذين لا يعلمون شيئًا لديهم ألف اسم واسم. أولئك الذين اخترعوا لغة الشارع أبدعوا في وصف خيبة الأمل.
وهو إبداع شعبي للغاية، يكاد يكون سوقيًا. لا تنتظري من فقيرة عشموها بالحلق فخرّمت أذنيها أن تكون رومانسية في وصف الحسرة. أبسط وأرق تعبير لدى واحد تعامله الحياة بمنتهى الخشونة، ثم حين تغلط فتعده بشيء يفرح تقول له «هأ»، كنت أهذر معك، أبسط وأرق تعبير لدى واحد من هؤلاء أن يقول لقد أعطتني الحياة «مقلبًا». هذا أقصى ما يملك في شاعرية، أما حين يفضفض بعض الشيء فسيقول «أخذت مغرزًا خرج من أذني»، ثم يمعن في السوقية فيقول «صابونة»، ثم تتوالى المفردات.. «زنبة».. «بمبة».. وما شابه من كلمات مفرطة في القبح والنشاز.. حين تسمعها لا ترى في خيالك إلا إسفلتًا مسقيًا ببنزين يدوسه كاوتش عجلات ثقبتها مسامير...
وتحتارين يا عزيزتي أيّنا تلومين: ذلك الشخص الذي ظل عشر سنين يحاول أن يقيم معك صداقة، لكنه سمح لنفسه بأن يهدم ما يمكن أن يكون قد بناه حين أذن لقلمه بخط هذه الحروف المذنبة على ورقة متواطئة، أم تراه الشارع الذي وُلد في حضنه، وزيت السيارات والعجلة والمسمار الصدئ والمفردات القبيحة، أم أنها خيبة الأمل -التي أركبها الشعب المصري جملاً في إحدى تجلياته الساخرة- هي خيبة الأمل المسؤولة عن قبح المفردات التي ترادفها.
أعتقد أن خيبة الأمل في المعاني التي آمنا بها تفقدنا –أو قد تفقدنا على الأقل- الإيمان بها. وحين نفقد الأمل في المعاني الجميلة، من أين نأتي بالمعاني الجميلة؟
كما أن علم النفس الذي بدأنا به المقالة ثم تجاهلناه يصف مرادفه لخيبة الأمل «الإحباط» بأنه حالة تحوي فيما تحوي رغبة في التدمير. لذلك تلد خيبة الأمل فيما هو جميل لغة قبيحة، فيما تلد من القبح.
من هذا الطريق إذن تأتي «الزنبة»، و«البمبة»، و«المغرز»...إلخ! يأتي خمسمائة مرادف لخيبة أمل واحدة، وكلها مرادفات قبيحة؛ لأن خيبة الأمل كحالة إنسانية حالة قبيحة.. ولا يأتي من الشارع إلا القبيح.
لماذا أقول لك كل هذا؟ أهذا هو السؤال الذي على بالك الآن؟ لأني لا أستطيع أن أخدعك. لقد تعودت أن أكتب المقالة كما أكتب القصيدة. وأنا لا أخطط للقصيدة قبل كتابتها. بل أنتظر أن يزورني أول سطرين في التوقيت الذي يحددانه.. فأسمح لهما بالدخول، وعادة ما يدخل معهما باقي القصيدة.
كذلك المقالة، لا أخطط لها. ولقد رأيت المعنى حين أمسكت بالقلم. رأيت أنني أنتمي إلى لغة غنية للغاية، فيما يعبر عن خيبة الأمل، لكن هذا الغنى الكمي لا يعني جمالاً فنيًّا بل بالعكس، ورأيت أن هذه ظاهرة تستحق التحليل.. وقد حدث.
وأعتقد يا عزيزتي أن العشرة التي بيننا –إن كنت تقرئينني منذ أن تطفلت على هذا المكان- تجعلك تتوقعين مني الكثير.
هي نظرية في النقد الأدبي. نظرية جديدة تنسب الفعل الأدبي للقبح لا الجمال. إن هؤلاء الذين يخلقون خيبة الأمل في الشارع والبيوت هم المسؤولون عن نتائجها في اللغة. إنها نظرية جديدة في النقد تتبع القبح في التعبير اللغوي موضوعًا أساسيًا لها. وبناء على هذا فإن نجوم الأدب التي تختص بهم هم اللصوص والقتلة والدجالون والمرتشون وبياعو الضمائر والأوطان، هؤلاء هم الصناع الحقيقيون لخيبة الأمل.